"نتفليكس"... تطبيع في زيّ الترفيه | حوار

إبراهيم عرب

 

خلال سنوات قصيرة، حقّقت الدراما والسينما حضورًا لافتًا على منصّات الدفع مقابل الطلب، مثل «نتفليكس» و«إتش بي أو» وغيرهما، وتحظى هذه المنصّات بانتشار واسع دوليًّا بمختلف لغات العالم.

يدّعي كثيرون أنّ عددًا من هذه المنصّات، وعلى رأسها «نتفليكس»، منحاز لإسرائيل، وأنّها تقدّم أعمالًا لترويج الرواية الصهيونيّة في قوالب ترفيهيّة على حساب الفلسطينيّين والشعوب العربيّة؛ إذ تظهر القضيّة الفلسطينيّة لا بصفتها مسألة تحرّر وطنيّ وقضيّة عدالة إنسانيّة، وإنّما «إرهاب» وكراهية لليهود، مثلما هو حاصل مع واحد من أشهر المسلسلات المعنوَن بـ «فوضى»، الّذي يتناول وحدة مستعربين إسرائيليّة تعمل في الضفّة الغربيّة، أو فيلم «الملاك» الّذي يروي قصّة أشرف مروان، الّذي يُدّعى أنّه عميل مزدوج.

حول هذه المنصّات وحضور الروايتين الفلسطينيّة والإسرائيليّة فيها، كان هذا اللقاء لفُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مع الباحث والصحافيّ إبراهيم عرب.

عرب من مواليد بيروت، يعمل في الصحافة منذ عام 2004، مع عدد من المؤسّسات الإعلاميّة المكتوبة والمسموعة والتلفزيونيّة والرقميّة، وقد عمل معيدًا جامعيًّا في عدد من الجامعات اللبنانيّة، ومدرّبًا في عدد من المؤسّسات غير الحكوميّة. انضمّ إلى شبكة «الجزيرة» الإعلاميّة في 2011، وعمل فيها صحافيًّا في غرفة الأخبار، ومراسلًا ميدانيًّا، ثمّ رئيس تحرير للنشرات الإخباريّة. خلال عمله في شبكة «الجزيرة»، أشرف على عدد من التغطيات الخاصّة لقضايا المنطقة والعالم، وعلى عدد آخر من المشاريع الإعلاميّة. حصل على الماجستير من «معهد الدوحة للدراسات العليا» عن بحث بعنوان «السرديّة الإسرائيليّة على منصّات الفيديو الرقميّة: تمثيلات أشرف مروان في محتوى ‘نتفليكس‘ نموذجًا». درس «الإعلام والاتّصال الجماهيريّ» في «جامعة بيروت العربيّة»، ويُعِدّ أبحاثًا في مجالات الإعلام والدراسات الثقافيّة والعلوم السياسيّة.

 

فُسْحَة: لنتحدّث بدايةً عن مسلسل «الملاك»، ما الصورة الّتي رسمها للمخابرات الإسرائيليّة أوّلًا، وثانيًا لأشرف مروان؟

إبراهيم: يُعَدّ فيلم «الملاك» أو «العميل بابل»، وفق النسخة العربيّة على «نتفليكس»، أخطر الأعمال المتعلّقة بشخصيّة أشرف مروان على هذه المنصّة؛ وذلك لأسباب عدّة، أوّلها أنّ «الملاك» من النوع الدراميّ، وما يتضمّن ذلك من خيال دراميّ واختلاق أحداث وحوارات لا تمتّ للحقيقة بصلة، تتناول إحدى أكثر القضايا غموضًا في التاريخ العربيّ الحديث، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بما يعتبره العرب – ولا سيّما المصريّين والسوريّين - أنّه الانتصار الأبرز على إسرائيل منذ النكبة؛ أي «حرب أكتوبر» 1973. ومن هذه الأحداث المختلقة، على سبيل المثال، زيارة الرئيس جمال عبد الناصر إلى لندن وعقده اجتماعًا في منزل السفير المصريّ في لندن، وهذا لم تورده المذكّرات ولا الوثائق، وهو أشبه بزيارة فيديل كاسترو إلى واشنطن؛ أي تُعَدّ أمرًا من الصعوبة بمكان تخيّله أو فهمه. ثمّ إنّ الفيلم وقع في سقطات تتعلّق بالعلم المصريّ إبّان فترة السادات، وكذلك برتبة الفريق سعد الدين الشاذلي، عدا الحوارات والأحداث غير الموثّقة.

 

 

ومن هنا يأتي البند الثاني من خطورة هذا العمل؛ إذ إنّه يدّعي أنّه اعتمد على كتاب الأكاديميّ الإسرائيليّ أوري بار يوسيف، وعنوانه «الملاك: الجاسوس المصريّ الّذي أنقذ إسرائيل». لكنّ هذا العمل وفق دراستنا له، وبعد البحث والتمحيص، لا يتّفق مع الفيلم، لا من حيث الأحداث ولا من حيث الاستنتاجات؛ فكتاب بار يوسيف يدعم بأدلّة وبراهين رواية «الموساد» بأنّ أشرف مروان عميل لإسرائيل، بينما يخلص الفيلم إلى أنّ مروان عميل مزدوج.

النقطة الثالثة أنّ فيلم «الملاك» يتلاعب بالجمهور منذ البداية، حيث يقدّم صنّاع الفيلم تمويهًا لأنّ مروان عميل مزدوج أو جاسوس لإسرائيل، انطلاقًا من دوافع الانتقام من قمع عبد الناصر له، وكذلك الغرور بحثًا عن منصب ودور، إضافة إلى دافع المال؛ إذ عُرِف عن مروان بذخه وميله إلى نمط عيش ثريّ. واستمرّ هذا التلاعب إلى حين اجتماعه بالسادات وتقديم خطّة «حرب أكتوبر» أو «يوم الغفران» له، وهذه أيضًا معلومة لم تَرِد في كتاب بار يوسيف، ولا في أيّ مستند تاريخيّ اطّلعت عليه خلال بحثي الأكاديميّ؛ فالسادات هنا وفق الفيلم أخذ بخطّة مروان بخديعة الإسرائيليّين، من خلال التجهيز للحرب غير مرّة وعدم خوضها، ثمّ الانقضاض عليهم في «يوم الغفران»، أقدس الأعياد عند اليهود. وهذا أيضًا لا يتّفق مع أيّ رواية إسرائيليّة أو مصريّة بشأن «حرب أكتوبر».

النقطة الرابعة تتعلّق «بالموساد» الإسرائيليّ، الّذي يظهر كأنّه جهاز استخباريّ عاديّ، وليس جهازًا خارقًا كما درجت على ذلك أعمال أخرى. ويُظْهِر الفيلم أيضًا وجود صراع بين أجنحة داخل أجهزة الاستخبارات، ليس المقصود هنا شعبة الاستخبارات العسكريّة «أمان» و«الموساد»، إنّما داخل الأخير نفسه، وكأنّ ثمّة تيّار صقور وتيّار حمائم. ومن جهة ثانية، ركّز الفيلم على كيف أنّ «الموساد» تعرّض للخديعة من مروان، وهذا ينفي عنه صفة الجهاز الخارق الّذي لا يُقْهَر! وفي رأيي أعتقد أنّ هذا طُعْم من صنّاع الفيلم ومخرجه الإسرائيليّ آرييل فرومان، لما سيحمل الفيلم من رسائل ومحاولة زرع ثقافيّ في ذهن الجمهور المستهدف.

النقطة الخامسة تصوير أشرف مروان على أنّه شابّ يحمل رؤية للسلام، وأنّه حقّقها بالشكل الأكثر اختلالًا وفق ما صرّح به سابقًا مخرج الفيلم. الفيلم أظهر مروان على أنّه الأب الحنون والزوج الوفيّ، رغم حبّه للحياة الليليّة وشرب الخمور ولعب القمار، إلّا أنّ الفيلم لم يُظهره يقوم بعلاقة خارج الزواج باستثناء تقبيله للممثّلة البريطانيّة، في إطار التمويه والتهرّب من الرقابة عليه، حتّى أنّه رفض عرضها مرّتين لإقامة علاقة جنسيّة. الفيلم يلعب على الوتر الإنسانيّ لمروان، إذ يبيّن أنّه خسر على المستوى العائليّ زوجته واستقراره العائليّ، من أجل تحقيق ما سمّاه في أحد المشاهد «مسألة أمن قوميّ»، إضافة إلى محاولة إظهاره كأنّه ناشط باحث عن السلام.

أخيرًا، يخلق الفيلم حالة من التعاطف بين فئات من الجمهور، خاصّة المؤيّدة «للسلام»، بينما يخلق حالة من الكره والعداء من قِبَل الجمهور المعادي لإسرائيل. مخرج الفيلم كان شديد الصراحة عندما قال: "الفيلم أصلًا موجّه إلى الجمهور العربيّ وإلى العلاقات بين الإسرائيليّين والعرب. والرسالة في نهاية الفيلم كيف ننظر إلى الطريق إن حصل السلام، سننتصر". وخلاصة ذلك أنّ الفيلم يقدّم أيضًا سرديّة إسرائيليّة، من أنصار السلام وداعمي رواية العميل المزدوج الّذي حاول تكريسها. لم يُجب الفيلم عن سؤال مفتاحي رئيسيّ، وهو كيف تحوّل مروان من نيّته العمل جاسوسًا لإسرائيل في نهاية عهد عبد الناصر إلى عميل مزدوج في عهد السادات؟

 

فُسْحَة: إن كان الفيلم يختلف عن الرواية الّتي استند إليها، فهل يبتعد عن رواية «الموساد» عن أشرف نفسه؟ وإن كان يختلف عن الرواية الرسميّة، فهل يختلف عن سياق الترويج لإسرائيل؟ ولا سيّما مع ما ذكرته من «عاديّة الموساد»؟

إبراهيم: رواية «الموساد» الّتي يعبّر عنها رئيسه في تلك الفترة، تسفي زمير، وكذلك ما أكّدته لجنة التحقيق برئاسة القاضي شمعون أغراناط، إضافة إلى ما حسمه القضاء الإسرائيليّ في 12 حزيران (يونيو) 2007، فإنّ كلّ ذلك يؤكّد على أنّ أشرف مروان كان جاسوسًا لإسرائيل، وليس عميلًا مزدوجًا. وبناء عليه، فإنّ الفيلم يقدّم سرديّة مغايرة أقرب إلى رواية رئيس «شعبة الاستخبارات العسكريّة» آنذاك، إيلي زعيرا. وبذلك فإنّ الفيلم - وإن لم يأخذ برواية «الموساد» - لكنّه أخذ برواية إسرائيليّة أخرى لها أرضيّة تاريخيّة داخل أروقة صنّاع القرار في إسرائيل، بأنّ مروان عميل مزدوج. الفيلم تكمن خطورته في تضمينه خطابًا إسرائيليًّا وغرسًا ثقافيًّا في اتّجاه السلام والتطبيع مع إسرائيل، أكثر ممّا هو ترويجيّ أو دعائيّ «للموساد»، مثل السلسلة الوثائقيّة «أسرار الموساد» أو «Inside the Mossad».

نقطة إضافيّة ومهمّة أيضًا، أنّ الفيلم من إنتاج «نتفليكس»، وبالتالي فإنّه يخضع للمعايير التحريريّة والموافقة الضمنيّة على السيناريو قبل إنتاجه؛ وهو ما يحمّل المنصّة مسؤوليّة تبنّي هذا التوجّه أو وجهة النظر هذه.

 

فُسْحَة: النقطة الأخيرة مهمّة. المسلسل يستند إلى رواية تاريخيّة، ومع ذلك تختار «نتفليكس» جزئيّتها الخاصّة: أشرف مروان جاسوس مزدوج. هل تدفع «نتفليكس» بسرديّة معيّنة هي «سرديّة السلام» مقابل طمس الحقيقة؟

إبراهيم: أن ينحو صنّاع الفيلم في اتّجاهات أخرى تبرّرها لهم سياقات الدراما، هذا أمر غير مفهوم، خاصّة عندما يتعلّق الأمر بأحداث تاريخيّة ووقائع ووثائق؛ إذ إنّنا أمام دراما تاريخيّة، ولسنا أمام فيلم خيال علميّ.

لا تدّعي «نتفليكس» أنّ لها أجندة سياسيّة، وتنفي ذلك مرارًا وتكرارًا، وتقول إنّها تبحث عن تقديم الترفيه للمشاهدين، ردًّا على اتّهامهم صراحة بالانحياز إلى إسرائيل. هذا ما يأتي في بياناتهم الصحافيّة والمقابلات الّتي تُجْرى مع المتحدّثين باسم هذه المنصّة العالميّة؛ لذلك، لا نستطيع توجيه الاتّهام بقدر ما نستطيع تسجيل ملاحظات لظواهر متكرّرة في ما يتعلّق بالإنتاج الإسرائيليّ أو اليهوديّ عمومًا على المنصّة.

 

 

استنادًا إلى «نظريّة التأطير» في علوم الاتّصال الّتي وضعها روبرت، فإنّها تقوم على عنصرين رئيسيّين: الانتقاء والبروز. ومن مظاهر عنصر البروز عمليّة التكرار ولو بأشكال مختلفة؛ فمن خلال بحثي، لاحظت كثافة من المحتوى اليهوديّ التاريخيّ، الّذي يتناول مظلوميّة اليهود عالميًّا، خاصّة إبّان الحرب العالميّة الثانية تحت الاحتلال النازيّ لمعظم أوروبّا، وبالطبع هذا يحيلنا إلى معسكرات الاعتقال، وأفران الغاز، ومأساة الإبادة الجماعيّة المعروفة باسم «الهولوكست». ومن جهة ثانية، فإنّ المحتوى الإسرائيليّ يتجلّى بالأعمال المتعلّقة بإنجازات المخابرات الإسرائيليّة، ومنها زرع الجاسوس إيلي كوهين في دمشق، أو اختطاف الضابط النازيّ الكبير أدولف أيخمان من الأرجنتين لمحاكمته وإعدامه في إسرائيل، وصولًا إلى عمليّة تهريب يهود الفلاشا عبر السودان إلى إسرائيل، وغيرها من العمليّات الّتي تفاخر فيها إسرائيل وأجهزتها الأمنيّة.

ومن جهة ثالثة، فإنّ المحتوى الإسرائيليّ أو اليهوديّ الدينيّ على «نتفليكس» يأخذ منحًى مناهضًا للمتديّنين، سواء أتباع الحريديّة أو الحاسيديّة، وهذا يتجلّى في عدد من المسلسلات والأفلام الّتي تنتقد تزمّت هذه الفئة دينيًّا، والإيحاء بأنّها متخلّفة وخارجة عن العصر.

وهذا يحيلنا إلى الجهة الرابعة، وهي المحتوى ذو الطابع الجدليّ، خاصّة ما يرتبط مباشرة بالقضيّة الفلسطينيّة. لعلّ مسلسل «فوضى» بأجزائه الثلاثة عيّنة جديرة بالدراسة والاهتمام؛ فهذا المسلسل الّذي تنتجه «نتفليكس»، أي من حرّ مالها، ومن ثَمّ لا أحد يدفع تكلفة إنتاج ضخمة من دون الموافقة على المحتوى، فإنّه كما يدين المقاومة الفلسطينيّة فإنّه أيضًا يوجّه انتقادات أقلّ حدّة للسياسات الأمنيّة الإسرائيليّة ووحدة المستعربين، مدلّلًا على وجود أخطاء وتجاوزات تسبّبت في مقتل أبرياء، ودفعت الكثير من الفلسطينيّين إلى سلوك طريق العنف.

إنّه، إذن، «دسّ السمّ في العسل»، كما يقول المثل الشائع، ومن هنا نعود إلى قضيّة أشرف مروان. فيلم «الملاك» أنتجته «نتفليكس» أيضًا من حرّ مالها، خلافًا للسلسلة الوثائقيّة «أسرار الموساد»، أو الفيلم الوثائقيّ «الجاسوس الّذي سقط على الأرض»، وبالتالي فإنّ رسالة الفيلم - كما قال مخرجه الإسرائيليّ آرييل فرومان - تستهدف المشاهد العربيّ لتعزيز مفهوم السلام، وأنّه الخيار الّذي انتصر بمعزل عن هويّة أشرف مروان، أجاسوسًا كان للموساد أم عميلًا مزدوجًا، وهذه الخلاصة يلتقطها المشاهد بكلّ وضوح في المشهد الأخير من الفيلم، عند اللقاء بين مروان ومشغّله الإسرائيليّ سابقًا، بعد سنوات من انقطاعه عن الخدمة، في إحدى حدائق لندن.

وبناء على ذلك، فإنّ «نتفليكس»، بكلّ وضوح، بما أنّها أنتجت هذا الفيلم من ميزانيّتها وبثّته على منصّتها، فإنّها تدفع بسرديّة السلام والتطبيع وإن كانت تنفي وجود أيّ أهداف سياسيّة، وتحدّثنا عن تقديمها للترفيه. هذا الترفيه الّذي يتجلّى في محتوًى سياسيّ كثيف على المنصّة، يدفعنا أيضًا إلى السؤال عن تفسيرهم لمعنى الترفيه.

 

فُسْحَة: هذا المسلسل الإسرائيليّ ليس وحيدًا على «نتفليكس». ثمّة مسلسلات أخرى طبعًا تتبنّى رواية إسرائيليّة مطلقة مثل «فوضى» وغيره. حتّى لا نبدو كأنّنا نروّج نظريّة المؤامرة، أين الأعمال العربيّة ذات الصلة؟

إبراهيم: كما يعلم جميع المشتركين في «نتفليكس»، أو المراقبون لهذا الشأن، فإنّ المحتوى العربيّ بدأ بالتزايد مؤخّرًا، لكنّ هذا المحتوى ليس مرتبطًا - لا من قريب ولا من بعيد - بالصراع العربيّ الإسرائيليّ أو القضيّة الفلسطينيّة، باستثناء فيلم «ولاد العمّ»، الّذي أصلًا يسخر منه المصريّون، وحوّلوه إلى رموز ساخرة (Memes) لا يرقى في المنافسة مع الأعمال الإسرائيليّة. يغلب على المحتوى العربيّ الجانب الترفيهيّ فقط؛ إذ جرت إضافة مسرحيّات أيقونيّة مؤخّرًا، مثل «العيال كبرت» و«شاهد ما شافش حاجة» و«الواد سيّد الشغّال» وغيرها. أمّا الجانب التاريخيّ فقد يكون جرى التعبير عنه من خلال محتوًى تاريخيّ كلاسيكيّ مثل فيلم «الرسالة». وبالطبع هذه الأعمال ليست من إنتاج «نتفليكس»، بل ما جرى هو شراء حقوق بثّ. حتّى الأعمال المسمّاة «فلسطينيّة» على «نتفليكس»، مثل «عمر» و«ولد وفي غزّة» و«إن شاء الله»، فهي أيضًا لا تحظى بشهرة الأعمال الإسرائيليّة وترويجها، فضلًا على أنّه يمكن وصفها بالإنتاج الحمائميّ مقارنة بالإنتاج الصقوريّ، إن جاز هذا التشبيه.

 

فُسْحَة: حسنًا، ما الّذي يميّز الإنتاج الدراميّ الإسرائيليّ، حتّى يلقى رواجًا على «نتفليكس»؟

إبراهيم: استنادًا إلى الأطروحة الّتي أعددتها، توصّلت إلى أنّ الدراما الإسرائيليّة حجزت مكانًا عالميًّا لها، من خلال أعمال مثل «فوضى» ، و«المختطفون»، إضافة إلى مسلسل «Our Boys» (Shtisel)، وكذلك مسلسل «العلاج النفسيّ» (Betipul)، وقد أُدرجت هذه الأعمال الثلاثة على لائحة «نيويورك تايمز» لأفضل ثلاثين عملًا تلفزيونيًّا بين 2010 و2020.

وقد دفعت هذه المكانة عددًا من صنّاع الأفلام والمخرجين الإسرائيليّين، إلى تأكيد ضرورة بيع إنتاجهم الأصليّ كما هو، وليس أن يكون إنتاجهم مادّة لاستيحاء أعمال أخرى، مثل ما جرى في «المختطفون»، الّذي استُوحي منه مسلسل «Homeland»، وهذا الأمر يعود إلى المنافسة الشديدة بين المنصّات الرقميّة المختلفة مثل «نتفليكس» و« HBO» و« Apple». هذا ويتميّز الإنتاج الإسرائيليّ بجودته العالية وكلفته المتدنّية، ويتناول قضايا الانقسامات بين الأشخاص المتديّنين والعلمانيّين، والهجرة، واضطرابات ما بعد الصدمة الّتي ترتبط بفرض الخدمة العسكريّة الإجباريّة في إسرائيل.

وفي لمحة تاريخيّة سريعة، نرى أنّ الإنتاج الدراميّ الإسرائيليّ بدأ صعوده بين منتصف الستّينات والسبعينات، مع المخرج الإسرائيليّ مناحيم غولان. أمّا انتقال السينما والدراما الإسرائيليّة إلى الولايات المتّحدة، فهذا يعود إلى شبكة قويّة من العلاقات، أشار إليها مخرج فيلم «الملاك» آرييل فرومان، تضمّ منتجين ومخرجين وصنّاع الأفلام عمومًا، لا سيّما أنّ كثيرًا منهم نشأ في الغرب، ولا ينظر إليه على أنّه إسرائيليّ؛ ولذلك فإنّ الهدف وفق فرومان "درس شامل في التاريخ، يدخل فيه الوعي الإسرائيليّ إلى الصورة"، من أجل تتويج القصص الإسرائيليّة، لا كنجاح لدولة إسرائيل وقصصها، إنّما كنجاح للمنتجين الأكفياء لهذه القصص.

 

 

وهنا لا بدّ من التوقّف عند الدور الّذي يؤدّيه المفكّرون وصنّاع الأفلام والنخب من الإسرائيليّين، ويهود الشتات، ومَنْ يعتبرون أنفسهم أصدقاء لإسرائيل في الـ «هاسباراه» أو «الدبلوماسيّة العامّة». ويحضرنا هنا المخرج العالميّ الأمريكيّ اليهوديّ ستيفن سبيلبيرغ، الّذي أخرج فيلم «ميونيخ» في 2005، عن الهجوم الّذي استهدف اللاعبين الأولمبيّين الإسرائيليّين في ألمانيا. هذا فضلًا على مشاركة ضبّاط وجنود إسرائيليّين سابقين في الكتابة والتمثيل، أو حتّى التدريب على أداء المشاهد.

 

فُسْحَة: هل يمكن تقديم رواية فلسطينيّة وعربيّة مضادّة؟

إبراهيم: الإجابة هنا تعتمد على عوامل عدّة؛ إذ إنّنا لسنا أمام سؤال بسيط تكمن إجابته بنعم أو لا. أوّل هذه العوامل يعتمد أساسًا على أنّنا في موقع ردّ الفعل وليس الفعل؛ إذ بمجرّد الحديث عن سرديّة مضادّة فنحن نقوم بردّ الفعل، وهذه مشكلة إستراتيجيّة نقع فيها على كلّ المستويات بما يتعلّق بالقضيّة الفلسطينيّة، أو منذ مرحلة الاستعمار وما بعدها. والسؤال هنا: لماذا لا يكون لدينا سرديّة تستفزّ الآخرين للبحث عن سرديّة مضادّة لسرديّتنا؟ بكلّ بساطة، تكمن القضيّة بالقوّة ومَنْ يمتلك مفاتيحها، وبالتالي بين يديه الأدوات الّتي من خلالها يستطيع فرض سرديّة مهيمنة.

أمّا العامل الثاني، فهو شأن داخليّ بامتياز، يتعلّق بالإشكاليّة التالية: أنمتلك سرديّة موحّدة حيال قضيّة ما، أم نمتلك سرديّات متناقضة ومختلفة، نُقصي على أساسها بعضنا بعضًا، ونشنّ الحروب الفكريّة والتكفيريّة من حيث الانتماء الوطنيّ والسياسيّ والدينيّ والفكريّ والاجتماعيّ؟ هنا مربط الفرس إن جاز القول، هل يُجْمِع المصريّون مثلًا على سرديّة واحدة حيال أشرف مروان، بما أنّه النموذج الّذي درسته؟ إذ خلال بحثي وجدت سرديّات مصريّة متناقضة؛ فالصحافيّ الراحل محمّد حسنين هيكل يقول إنّه يمتلك أدلّة، حصل عليها من داخل الكنيست، تفيد بأنّ أشرف مروان جاسوس لإسرائيل. وهنا سرديّات أخرى تعبّر بشكل أو بآخر عن عائلة مروان، ممثّلة بزوجته منى وابنه جمال وآخرين، وصولًا إلى الدائرة المقرّبة من الرئيس الراحل حسني مبارك ونجله جمال، تشير إلى أنّ أشرف رجل وطنيّ وأدّى مهمّات ليس وقت الكشف عنها. إذن، متى يحين وقت الكشف عنها؟

هذه قضيّة أشرف مروان أمامنا، ولدينا عدد من السرديّات لا يحسمها أيّ موقف رسميّ مصريّ واضح وصريح، بعيدًا عن التصريحات والتلميحات على قاعدة أنّ اللبيب من الإشارة يفهم. هذا الأمر لا يجوز التلاعب فيه؛ إذ إنّه ينعكس مباشرة على الوعي الجمعيّ والكرامة الوطنيّة لأجيال مضت وأجيال قادمة.

إذن، ماذا عن قضايا أخرى؟ هل نمتلك رواية واضحة وصريحة حيال ما جرى في نكسة 1967 مثلًا، أو اغتيال ناجي العلي، وغيرهما من القضايا المرتبطة بجوهر الصراع العربيّ الإسرائيليّ؟

لنفترض أنّ لدينا إجماعًا حول قضيّة معيّنة، ولدينا المعطيات والحقائق، وهذا يحيلنا إلى العامل الثالث، فهل لدينا الإنتاج النوعيّ الّذي يستطيع تحقيق منافسة مع الإنتاج الآخر؟ وهذا أيضًا يدفعنا إلى التساؤل عن حقيقة إنتاجنا العربيّ ومضمونه وجودته، الّذي يغلب عليه الدراما الرومانسيّة أو الكوميديا لغاية الترفيه. هل هذا يعني الاستسلام؟ أبدًا، على الإطلاق. وهنا أستشهد بمثال حيّ وحديث وواضح؛ الدراما التركيّة الّتي كانت غارقة من رأسها إلى أخمص قدميها بقصص العشق والخيانة والإثارة البوليسيّة والكوميديا. هذه الدراما تحوّلت في الآونة الأخيرة إلى تقديم سرديّات تاريخيّة عن قيادات عثمانيّة تاريخيّة، سواء عبر مسلسلات وأفلام دراميّة أو وثائقيّة، وصولًا إلى تقديم إنتاج يُصَنَّف في خانة الدراميّ – الوثائقيّ، مثل السلسلة الأخيرة الّتي تُعْرَض الآن على «نتفليكس» باسم «بزوغ الإمبراطوريّة: العثمانيّون». إذن، الإنتاج التركيّ بجودته وضخامته ووجود جمهور واسع له، فرض نفسه على منصّة «نتفليكس» الّتي تقوم في النهاية على مبدأ العرض والطلب، وعلى استقطاب الزبائن أو الجمهور المستهدَف، وبالتالي يصبح هذا المثال ردًّا واضحًا على فكرة أنّ «نتفليكس» لديها أجندة معادية مسبقة ضدّ العرب والمسلمين؛ فلو كان ذلك صحيحًا لما كان الإنتاج التركيّ عن «قيامة أرطغرل» و«الفاتح» وغيرهما، ولا الأفلام عن الملاكم العالميّ محمّد علي، أو السلسلة الوثائقيّة الرائعة «مَنْ قتل مالكولم إكس؟».

 

 

وبما أنّ الشيء بالشيء يُذْكَر، فإنّ الوفاة الغامضة للرئيس الراحل ياسر عرفات قضيّة يُفْتَرَض أن يجتمع حولها جميع الفلسطينيّين، وبالتالي صنّاع الأفلام من خلفهم. وبما أنّ ثمّة أدلّة صارت دامغة، تشير إلى تعرّضه للتسمّم، وهذا يعني الاغتيال، هل ثمّة مَنْ فكّر في تقديم سلسلة دراميّة أو وثائقيّة ذات جودة ومعايير عالميّة، لتُعْرَض على مثل هذه المنصّات؟ أو تُعْرَض على قنوات تلفزيونيّة ثمّ تقوم منصّات مثل «نتفليكس» بشراء حقوق بثّها؟

العامل الرابع الأخير الّذي يواجه الفلسطينيّين والعرب عمومًا، يتعلّق بمسألة تصنيف «الإرهاب»، وبالتالي فإنّ أيّ سرديّة تُقَدَّم عن المقاومة الفلسطينيّة أو عمليّاتها، سَتُصَنَّف فورًا ضمن الدعاية وترويج الإرهاب. هذا الأمر يدفعنا أيضًا إلى تقديم سرديّاتنا بذكاء، والتركيز على الجوانب الإنسانيّة، مثل قضيّة الطفل محمّد الدرّة، أو حتّى الطفل محمّد أبو خضير؛ فهذه الجوانب الإنسانيّة الّتي لا يمكن الاختلاف حولها، يمكن من خلالها تقديم سرديّة قويّة تُظْهِر مظلوميّة الفلسطينيّين على سبيل المثال. وثمّة أمثلة أخرى ليس ثمّة متّسع للخوض فيها، من خلال الاستفادة من قصص الضحايا، بدلًا من أن يكونوا أرقامًا أو أسماء على لافتات وشعارات في مظاهرات. وفي النهاية، عندما يجري التأسيس لدراما عربيّة أو فلسطينيّة منافِسَة على المستوى العالميّ، يمكن لها أن تفرض نفسها، ولاحقًا تقديم قصصها بدون مواربة وفرض سرديّتها. فلا ننسَ هنا أنّ محمّد الفاتح، وفق تصنيفات اليونانيّين والأرثوذكس بخاصّة، والغرب عمومًا، إرهابيّ من الطراز الرفيع ومحتلّ، إلّا أنّ قوّة الإنتاج والسرديّة التركيّة دفعت «نتفليكس» إلى قبول ذلك؛ نظرًا إلى جماهيريّتها وإقبال المشاهدين عليها، فأيّ أجندة لا يمكن أن تتفوّق أو تنافس أجندة الدولارات والأرباح.

 

 

أحمد دراوشة

 

 

ناشط سياسيّ وطالب في جامعة حيفا. يعمل محرّرًا في موقع عرب 48. شارك في إعداد عدد من البرامج الوثائقيّة والإخباريّة، والأفلام الاستقصائيّة، لصالح التلفزيون العربيّ وقناة الجزيرة. يكتب المقالة السياسيّة والثقافيّة.